عايزين نخرج(1)
إن إنشغالي بهذه الكلمة جعلني أفكر في ماهيتها وقدرها كحال جميع الكلمات (*)، ولم تكن هذه الكلمة في قصتنا بهذه التفاهة التي نتصورها ، أو يتصورها البعض ، ولم تكن -في القصة- لمجرد الدلالة على الخروج للتنزه مع الأصدقاء أو العائلة.
ذات يوم كان هناك ثلاثة أصدقاء ، جمعت بينهم الصداقة منذ أمد بعيد ، في الزمن الذي تلاشت فيه هذه الصفات ، جمعت بينهم كما تجمع الأم صغارها في أحضانها وقت الزلزال ، لا يقدر أحد أن ينتزع أحد الأطفال من حضنها مهما كانت المقدمات والعوامل. فاستمرت صداقتهم وكبرت وترعرت في قلوبهم ، فمكثوا على حالهم هذا حتى أحرق المشيب رؤوسهم ، فماذا لعبت "عايزين نخرج" في حياة الثلاثة ، أحمد، ومصطفى، وعبد الحميد.
ففي يوم ، إستيقظ عبد الحميد كعادته باكراً ، ونزل يجري حول حديقة منزله ، فهو يسكن في فيلا في المعادي مع زوجته وحدهما بعد أن تزوج من تزوج من أبناءه وسافر من سافر. وزوجته بسبب ظروف مرضها ، تنام كثيراً وتصحى قليلاً ومع ذلك فهو راضٍ بذلك تمام الرضا ، ولم يضق ذرعه بها يوماً.
كان عبد الحميد ، منذ نعومة أظافره ، دوماً يعيش في سن أكبر من سنه وفي طور أعلى من طوره العمري والدراسي ، مما أدى إلى إجتناب جميع من في مرحلته في المدرسة وربما الجامعة له ، لإعتبارهم أنه "معقد" ، وكثيراً ما نعتوه بالـ"دحاح" لا يهوى إلا المذاكرة ولا يفعل شيئاً إلا مطالعة الكتب والمراجع الدراسية وغير الدراسية.
وفي نفس الحين الذي كان فيه الشباب يمرحون ويلعبون ، يغزون الحياة بأقدامهم ، يفتحون صدورهم لكل ما أمدهم المجتمع به ، كان عبد الحميد عاكفاً على كتبه ، ولم يثنيه عن هذا أي شئ حتى إجتناب الذين هم في مثل سنه له ، أو حتى إمتعاض الناس من وحدويته!
وبسبب هذا النظام الذي إلتزمه في حياته ، أصبح ممن يتمتعون بحسن السلوك ورجاحة المنطق وغزارة العلم وإنتظام الفكر.وكبر عبد الحميد على ذلك ولم تتغير طباعه منذ أن كان يلبس الشروت الكاكي زي مدرسته الإبتدائية أوائل الثلاينات من القرن الماضي.
إستيقظ عبد الحميد يومها ، في الساعة السادسة صباحاً ، وأخذ إفطاره البسيط ونزل يجري فأعجبه النسيم الصباحي الذي لا مثيل له في الدنيا ، وأعجبته أشعة الشمس المشرقة ، فقرر أن يقوم بعملٍ "الفدائي" ويتصل بصاحبيّ العمر -أحمد ومصطفى- في هذا الوقت المبكر! مع علمه التام بأن أحمد وصطفى ليسا مثله ، فهم يعكفون على لعب "الكوتشينة" و "الطاولة" والسهر سوياً في بيت أحمد الذي يعيش وحيداً ، ويذهب كلٌ منهم إلى سريره بعد أن يصليا الفجر جماعة في الزاوية المجاورة لبيتهما.
وبذلك ، في هذا الوقت ، لم يكونا -أحمد ومصطفى- قد أكملا إلا ساعة وبعضها نائمين، ومع علم عبد الحميد بهذا ، قرر أن يوقظهما ، فهو يؤمن بأنه لا أطال النوم عمراً ، وفرصة الجو الجميل أحق بالإنتهاز من فرصة النوم الموجودة دائماً.
فرفع عبد الحميد السماعة وطبعت أصابعه رقم منزل أحمد على أزرار التليفون ، فرن التليفون ثم انقطع ، ورن ثم إنقطع، ورد أحمد أخيراً : " آآآآآوووو .. خير .. مين! "
عبد الحميد : " أنا يابني .. إنت لسة نايم ؟ "
أحمد : " أيوة .. هي الساعة كام ؟ "
عبد الحميد: " الساعة ستة ونص ! "
أحمد: " هممم .. هممم .. آآآآووووو "
عبد الحميد: " أحمد ! إنت نمت على التليفون ؟ "
أحمد : " لأ . معاك أهو .. عايز إيه عالصبح كده، مصطفى جراله حاجة ؟ "
عبد الحميد : " لأ لأ ، كله بخير ، بس عايزين نخرج "
أحمد : " لما أصحى أكلمك بإذن الله "
عبد الحميد : " لأ دلوقتي "
أحمد : " عاه .. دلوقتي إيه؟ "
عبد الحميد : " أنا جايلك مسافة السكة .. إلبس بقة هدومك .. سلام "
أحمد : " لأ متجيــ ... ــش ، آلو آلو .. قفل السكة ! "
ونظر أحمد لسريره ولحافه ، مقومات الكسل والنوم ، ولكنه يعرف عبد الحميد جيداً ، سيكون عنده في ظرف ساعة إلا الربع ، المسافة بين المعادي -حيث يسكن عبد الحميد- والجمالية -حيث يسكن أحمد-.
وصل عبد الحميد لبيت أحمد ، وأحمد منتظره أمام منزله ، فركب مع عبد الحميد سيارته ، في طريقهم إلى بيت مصطفى. وبالطبع لم يكلما مصطفى لأنهما يعرفانه جيداً ، فهو محباً للنوم بشراهة ، ولن يحمله على أن يقوم من نومه إلا إذا رآهما ماثلين فوق رأس سريره ، لا تليفون يفيقه ولا غيره.
وما إن وصلا إلا بيت مصطفى دق عبد الحميد جرس الباب ، ففتحت لهما زوجته ودخلا عليه حجرة نومه وأيقظاه ، فقام فور إستيعابه بوجودهما، فقال عبد الحميد ضاحكاً : " صحيح .. اللي ربى خير من اللي اشترى " ، فضحكوا جميعهم وتهيئوا للنزول نزلتهم المعتادة.
ونزلوا معاً فمروا بالحسينبية ، وإجتازوا بوابة القاهرة القديمة ، ومنها لشارع المعز ، مروراً بمسجد الحاكم بأمر الله ، وصولاً للحسين منه للغورية ، وفي الغورية جلسوا على قهوتهم "السلسبيل" التي يعشقونها جميعاً فأمروا 'دقدق' القهوجي بالمشاريب ، وطفقوا يتهيئون للبدء في حديثهم ..
يتبع ..
ذات يوم كان هناك ثلاثة أصدقاء ، جمعت بينهم الصداقة منذ أمد بعيد ، في الزمن الذي تلاشت فيه هذه الصفات ، جمعت بينهم كما تجمع الأم صغارها في أحضانها وقت الزلزال ، لا يقدر أحد أن ينتزع أحد الأطفال من حضنها مهما كانت المقدمات والعوامل. فاستمرت صداقتهم وكبرت وترعرت في قلوبهم ، فمكثوا على حالهم هذا حتى أحرق المشيب رؤوسهم ، فماذا لعبت "عايزين نخرج" في حياة الثلاثة ، أحمد، ومصطفى، وعبد الحميد.
ففي يوم ، إستيقظ عبد الحميد كعادته باكراً ، ونزل يجري حول حديقة منزله ، فهو يسكن في فيلا في المعادي مع زوجته وحدهما بعد أن تزوج من تزوج من أبناءه وسافر من سافر. وزوجته بسبب ظروف مرضها ، تنام كثيراً وتصحى قليلاً ومع ذلك فهو راضٍ بذلك تمام الرضا ، ولم يضق ذرعه بها يوماً.
كان عبد الحميد ، منذ نعومة أظافره ، دوماً يعيش في سن أكبر من سنه وفي طور أعلى من طوره العمري والدراسي ، مما أدى إلى إجتناب جميع من في مرحلته في المدرسة وربما الجامعة له ، لإعتبارهم أنه "معقد" ، وكثيراً ما نعتوه بالـ"دحاح" لا يهوى إلا المذاكرة ولا يفعل شيئاً إلا مطالعة الكتب والمراجع الدراسية وغير الدراسية.
وفي نفس الحين الذي كان فيه الشباب يمرحون ويلعبون ، يغزون الحياة بأقدامهم ، يفتحون صدورهم لكل ما أمدهم المجتمع به ، كان عبد الحميد عاكفاً على كتبه ، ولم يثنيه عن هذا أي شئ حتى إجتناب الذين هم في مثل سنه له ، أو حتى إمتعاض الناس من وحدويته!
وبسبب هذا النظام الذي إلتزمه في حياته ، أصبح ممن يتمتعون بحسن السلوك ورجاحة المنطق وغزارة العلم وإنتظام الفكر.وكبر عبد الحميد على ذلك ولم تتغير طباعه منذ أن كان يلبس الشروت الكاكي زي مدرسته الإبتدائية أوائل الثلاينات من القرن الماضي.
إستيقظ عبد الحميد يومها ، في الساعة السادسة صباحاً ، وأخذ إفطاره البسيط ونزل يجري فأعجبه النسيم الصباحي الذي لا مثيل له في الدنيا ، وأعجبته أشعة الشمس المشرقة ، فقرر أن يقوم بعملٍ "الفدائي" ويتصل بصاحبيّ العمر -أحمد ومصطفى- في هذا الوقت المبكر! مع علمه التام بأن أحمد وصطفى ليسا مثله ، فهم يعكفون على لعب "الكوتشينة" و "الطاولة" والسهر سوياً في بيت أحمد الذي يعيش وحيداً ، ويذهب كلٌ منهم إلى سريره بعد أن يصليا الفجر جماعة في الزاوية المجاورة لبيتهما.
وبذلك ، في هذا الوقت ، لم يكونا -أحمد ومصطفى- قد أكملا إلا ساعة وبعضها نائمين، ومع علم عبد الحميد بهذا ، قرر أن يوقظهما ، فهو يؤمن بأنه لا أطال النوم عمراً ، وفرصة الجو الجميل أحق بالإنتهاز من فرصة النوم الموجودة دائماً.
فرفع عبد الحميد السماعة وطبعت أصابعه رقم منزل أحمد على أزرار التليفون ، فرن التليفون ثم انقطع ، ورن ثم إنقطع، ورد أحمد أخيراً : " آآآآآوووو .. خير .. مين! "
عبد الحميد : " أنا يابني .. إنت لسة نايم ؟ "
أحمد : " أيوة .. هي الساعة كام ؟ "
عبد الحميد: " الساعة ستة ونص ! "
أحمد: " هممم .. هممم .. آآآآووووو "
عبد الحميد: " أحمد ! إنت نمت على التليفون ؟ "
أحمد : " لأ . معاك أهو .. عايز إيه عالصبح كده، مصطفى جراله حاجة ؟ "
عبد الحميد : " لأ لأ ، كله بخير ، بس عايزين نخرج "
أحمد : " لما أصحى أكلمك بإذن الله "
عبد الحميد : " لأ دلوقتي "
أحمد : " عاه .. دلوقتي إيه؟ "
عبد الحميد : " أنا جايلك مسافة السكة .. إلبس بقة هدومك .. سلام "
أحمد : " لأ متجيــ ... ــش ، آلو آلو .. قفل السكة ! "
ونظر أحمد لسريره ولحافه ، مقومات الكسل والنوم ، ولكنه يعرف عبد الحميد جيداً ، سيكون عنده في ظرف ساعة إلا الربع ، المسافة بين المعادي -حيث يسكن عبد الحميد- والجمالية -حيث يسكن أحمد-.
وصل عبد الحميد لبيت أحمد ، وأحمد منتظره أمام منزله ، فركب مع عبد الحميد سيارته ، في طريقهم إلى بيت مصطفى. وبالطبع لم يكلما مصطفى لأنهما يعرفانه جيداً ، فهو محباً للنوم بشراهة ، ولن يحمله على أن يقوم من نومه إلا إذا رآهما ماثلين فوق رأس سريره ، لا تليفون يفيقه ولا غيره.
وما إن وصلا إلا بيت مصطفى دق عبد الحميد جرس الباب ، ففتحت لهما زوجته ودخلا عليه حجرة نومه وأيقظاه ، فقام فور إستيعابه بوجودهما، فقال عبد الحميد ضاحكاً : " صحيح .. اللي ربى خير من اللي اشترى " ، فضحكوا جميعهم وتهيئوا للنزول نزلتهم المعتادة.
ونزلوا معاً فمروا بالحسينبية ، وإجتازوا بوابة القاهرة القديمة ، ومنها لشارع المعز ، مروراً بمسجد الحاكم بأمر الله ، وصولاً للحسين منه للغورية ، وفي الغورية جلسوا على قهوتهم "السلسبيل" التي يعشقونها جميعاً فأمروا 'دقدق' القهوجي بالمشاريب ، وطفقوا يتهيئون للبدء في حديثهم ..
يتبع ..
----------------
(*) كحال جميع الكلمات: فالإنسان ينظر للكلمة على أنها لا شئ ، مع أن أي عاقل يعلم جيداً أنه ربما يصبح من أهل الجنة بكلمة ، أو من أهل النار بكلمة ، من المؤمنين بكلمة ، أو من الملحدين بكلمة ، يدخل دين بكلمة ، يخرج منه بكلمة ، يتزوج فيكون سبباً في وجود طفل بكلمة ، يطلق فيهدم أسرة ويشردها بكلمة ، ، يخوض الحروب بكلمة ، ينشر السلام بكلمة ، يدمر المدن كناجازاكي بكلمة ، وغيرها من الكلمات التي ربما تغير مسار التاريخ ، لا أقول تاريخ العالم ولابد ، فربما تغير تاريخ الأشخاص على أقل تقدير. فهل أهم من الكلمة في حياة النفس؟ فكما قيل وهو صدق : الكلمة هي الحرية ، الكلمة مسئولية!
(*) كحال جميع الكلمات: فالإنسان ينظر للكلمة على أنها لا شئ ، مع أن أي عاقل يعلم جيداً أنه ربما يصبح من أهل الجنة بكلمة ، أو من أهل النار بكلمة ، من المؤمنين بكلمة ، أو من الملحدين بكلمة ، يدخل دين بكلمة ، يخرج منه بكلمة ، يتزوج فيكون سبباً في وجود طفل بكلمة ، يطلق فيهدم أسرة ويشردها بكلمة ، ، يخوض الحروب بكلمة ، ينشر السلام بكلمة ، يدمر المدن كناجازاكي بكلمة ، وغيرها من الكلمات التي ربما تغير مسار التاريخ ، لا أقول تاريخ العالم ولابد ، فربما تغير تاريخ الأشخاص على أقل تقدير. فهل أهم من الكلمة في حياة النفس؟ فكما قيل وهو صدق : الكلمة هي الحرية ، الكلمة مسئولية!