الأحد، 24 فبراير 2008

قصة :"عايزين نخرج"- الجزء الأول

عايزين نخرج(1)


إن إنشغالي بهذه الكلمة جعلني أفكر في ماهيتها وقدرها كحال جميع الكلمات (*)، ولم تكن هذه الكلمة في قصتنا بهذه التفاهة التي نتصورها ، أو يتصورها البعض ، ولم تكن -في القصة- لمجرد الدلالة على الخروج للتنزه مع الأصدقاء أو العائلة.

ذات يوم كان هناك ثلاثة أصدقاء ، جمعت بينهم الصداقة منذ أمد بعيد ، في الزمن الذي تلاشت فيه هذه الصفات ، جمعت بينهم كما تجمع الأم صغارها في أحضانها وقت الزلزال ، لا يقدر أحد أن ينتزع أحد الأطفال من حضنها مهما كانت المقدمات والعوامل. فاستمرت صداقتهم وكبرت وترعرت في قلوبهم ، فمكثوا على حالهم هذا حتى أحرق المشيب رؤوسهم ، فماذا لعبت "عايزين نخرج" في حياة الثلاثة ، أحمد، ومصطفى، وعبد الحميد.

ففي يوم ، إستيقظ عبد الحميد كعادته باكراً ، ونزل يجري حول حديقة منزله ، فهو يسكن في فيلا في المعادي مع زوجته وحدهما بعد أن تزوج من تزوج من أبناءه وسافر من سافر. وزوجته بسبب ظروف مرضها ، تنام كثيراً وتصحى قليلاً ومع ذلك فهو راضٍ بذلك تمام الرضا ، ولم يضق ذرعه بها يوماً.
كان عبد الحميد ، منذ نعومة أظافره ، دوماً يعيش في سن أكبر من سنه وفي طور أعلى من طوره العمري والدراسي ، مما أدى إلى إجتناب جميع من في مرحلته في المدرسة وربما الجامعة له ، لإعتبارهم أنه "معقد" ، وكثيراً ما نعتوه بالـ"دحاح" لا يهوى إلا المذاكرة ولا يفعل شيئاً إلا مطالعة الكتب والمراجع الدراسية وغير الدراسية.
وفي نفس الحين الذي كان فيه الشباب يمرحون ويلعبون ، يغزون الحياة بأقدامهم ، يفتحون صدورهم لكل ما أمدهم المجتمع به ، كان عبد الحميد عاكفاً على كتبه ، ولم يثنيه عن هذا أي شئ حتى إجتناب الذين هم في مثل سنه له ، أو حتى إمتعاض الناس من وحدويته!
وبسبب هذا النظام الذي إلتزمه في حياته ، أصبح ممن يتمتعون بحسن السلوك ورجاحة المنطق وغزارة العلم وإنتظام الفكر.وكبر عبد الحميد على ذلك ولم تتغير طباعه منذ أن كان يلبس الشروت الكاكي زي مدرسته الإبتدائية أوائل الثلاينات من القرن الماضي.


إستيقظ عبد الحميد يومها ، في الساعة السادسة صباحاً ، وأخذ إفطاره البسيط ونزل يجري فأعجبه النسيم الصباحي الذي لا مثيل له في الدنيا ، وأعجبته أشعة الشمس المشرقة ، فقرر أن يقوم بعملٍ "الفدائي" ويتصل بصاحبيّ العمر -أحمد ومصطفى- في هذا الوقت المبكر! مع علمه التام بأن أحمد وصطفى ليسا مثله ، فهم يعكفون على لعب "الكوتشينة" و "الطاولة" والسهر سوياً في بيت أحمد الذي يعيش وحيداً ، ويذهب كلٌ منهم إلى سريره بعد أن يصليا الفجر جماعة في الزاوية المجاورة لبيتهما.
وبذلك ، في هذا الوقت ، لم يكونا -أحمد ومصطفى- قد أكملا إلا ساعة وبعضها نائمين، ومع علم عبد الحميد بهذا ، قرر أن يوقظهما ، فهو يؤمن بأنه لا أطال النوم عمراً ، وفرصة الجو الجميل أحق بالإنتهاز من فرصة النوم الموجودة دائماً.

فرفع عبد الحميد السماعة وطبعت أصابعه رقم منزل أحمد على أزرار التليفون ، فرن التليفون ثم انقطع ، ورن ثم إنقطع، ورد أحمد أخيراً : " آآآآآوووو .. خير .. مين! "
عبد الحميد : " أنا يابني .. إنت لسة نايم ؟ "
أحمد : " أيوة .. هي الساعة كام ؟ "
عبد الحميد: " الساعة ستة ونص ! "
أحمد: " هممم .. هممم .. آآآآووووو "
عبد الحميد: " أحمد ! إنت نمت على التليفون ؟ "
أحمد : " لأ . معاك أهو .. عايز إيه عالصبح كده، مصطفى جراله حاجة ؟ "
عبد الحميد : " لأ لأ ، كله بخير ، بس عايزين نخرج "
أحمد : " لما أصحى أكلمك بإذن الله "
عبد الحميد : " لأ دلوقتي "
أحمد : " عاه .. دلوقتي إيه؟ "
عبد الحميد : " أنا جايلك مسافة السكة .. إلبس بقة هدومك .. سلام "
أحمد : " لأ متجيــ ... ــش ، آلو آلو .. قفل السكة ! "

ونظر أحمد لسريره ولحافه ، مقومات الكسل والنوم ، ولكنه يعرف عبد الحميد جيداً ، سيكون عنده في ظرف ساعة إلا الربع ، المسافة بين المعادي -حيث يسكن عبد الحميد- والجمالية -حيث يسكن أحمد-.

وصل عبد الحميد لبيت أحمد ، وأحمد منتظره أمام منزله ، فركب مع عبد الحميد سيارته ، في طريقهم إلى بيت مصطفى. وبالطبع لم يكلما مصطفى لأنهما يعرفانه جيداً ، فهو محباً للنوم بشراهة ، ولن يحمله على أن يقوم من نومه إلا إذا رآهما ماثلين فوق رأس سريره ، لا تليفون يفيقه ولا غيره.

وما إن وصلا إلا بيت مصطفى دق عبد الحميد جرس الباب ، ففتحت لهما زوجته ودخلا عليه حجرة نومه وأيقظاه ، فقام فور إستيعابه بوجودهما، فقال عبد الحميد ضاحكاً : " صحيح .. اللي ربى خير من اللي اشترى " ، فضحكوا جميعهم وتهيئوا للنزول نزلتهم المعتادة.

ونزلوا معاً فمروا بالحسينبية ، وإجتازوا بوابة القاهرة القديمة ، ومنها لشارع المعز ، مروراً بمسجد الحاكم بأمر الله ، وصولاً للحسين منه للغورية ، وفي الغورية جلسوا على قهوتهم "السلسبيل" التي يعشقونها جميعاً فأمروا 'دقدق' القهوجي بالمشاريب ، وطفقوا يتهيئون للبدء في حديثهم ..


يتبع ..


----------------
(*) كحال جميع الكلمات: فالإنسان ينظر للكلمة على أنها لا شئ ، مع أن أي عاقل يعلم جيداً أنه ربما يصبح من أهل الجنة بكلمة ، أو من أهل النار بكلمة ، من المؤمنين بكلمة ، أو من الملحدين بكلمة ، يدخل دين بكلمة ، يخرج منه بكلمة ، يتزوج فيكون سبباً في وجود طفل بكلمة ، يطلق فيهدم أسرة ويشردها بكلمة ، ، يخوض الحروب بكلمة ، ينشر السلام بكلمة ، يدمر المدن كناجازاكي بكلمة ، وغيرها من الكلمات التي ربما تغير مسار التاريخ ، لا أقول تاريخ العالم ولابد ، فربما تغير تاريخ الأشخاص على أقل تقدير. فهل أهم من الكلمة في حياة النفس؟ فكما قيل وهو صدق : الكلمة هي الحرية ، الكلمة مسئولية!

الثلاثاء، 19 فبراير 2008

الدنيا طابور عيش

الدنيا طابور عيش


طابور العيش شئ أساسي في حياة كل منا ، يلعب دوراً مهماً في حياة المصري ، هو أساس المواطنة ، و مقوي مهم للوطنية ، فيرسخ لدينا قواعد كثيرة مهمة.
أهمها التفكر في خلق الله!
أو التفكر في حال المصري بمعنى أصح فربما نحن متفردون بهذا الشئ (الطابور) عن باقي البشر!

فتقف في الطابور ، تجد أناس لا يعرفون بعضهم ، منهم البوسطجي و العسكري و زوجة البواب ، كلهم يشتري العيش البلدي (أيوة أبو شلن ده! ) و كل واحد منهم يعمل لحساب أحد المهمين في الدولة ، إما ضابط يستخدم العسكري في خدمة الوطن ليأتي له بالعيش البلدي لكي يفطر و بذلك الشئ سننتصر بإذن الله على أعداء الأمة ، أو سكان العمارة بالنسبة لزوجة البواب (ومن أهم من سكان العمارة في الدنيا ، فساكن العمارة هو أهم من السلم بالنسبة إلى العمارة فيعتقد كل ساكن أن لولاه لكانت العمارة خرابة قد جف منها الماء و تقطعت بسكانها السبل ، و يعتقد الآخرون أنه سبب نكبات الدهر التي تحل عليهم ، و كل واحد يعتقد نفسه كذلك و يراه الآخرون كذلك ) ، أو "العيال و أمهم" في حالة البوسطجي و من أعتى من "العيال" و من أشد بطشاً من "أمهم".. و غيرهم ..

ربما يتعجب البعض من هذا الكلام ، و يقول لنفسه مالي أنا بهذه القصص الطفولية و لكن إن صبرتم ستجدون ما يسركم ، و سيسترعي إنتباهكم تلك المفاهيم السامية التي ستتضح من كلامي!

المهم ، نجد كل من هؤلاء ، مع إختلاف تخصاصتهم العلمية و الأدبية و الإجتماعية ، تجدهم جميعاً مجتمعون على شئ واحد و مطلب واحد ، توحدوا في الطابور ، فتجد الطابور كتلة متكدسة ، كأن على رؤوسهم الطير ، لا تهمهم الشمس ، لا تهمهم الحرارة ، المهم تحقيق المطلب الواحد و الهدف الواحد و هو الحصول على الرغيف.
و ها هو يتجلى أمامنا "مفهوم الوحدة" ، و أي وحدة أكبر من ذلك.

ننتقل على المفهوم الثاني وهو مفهوم مهم ، وهو عند حدوث مشكلة ما بين أي شخص من الطابور وشخص آخر من خارج الطابور ، يسارع جميع أعضاء الطابور 'المقدس' للذب عن هذا المعتدى عليه ، العضو الراسخ الشامخ ، الذي ظل يسعى و يسعى بين مراتب الطبور حتى أوشك على إنجاز مهمته في أحسن شكل و بأسرع وقت لا يتعدى الثلاث ساعات على أفضل تقدير ، فإذا تم الإعتداء علي عذا العضو المهم من قِبَل شخص من خارج الطابور ، تجد الطابور هذا و كأنه أصبح شخصاً واحداً ، ويا للهول!
كل هؤلاء أصبحوا بقدرة قادر شخصاً واحداً ، نعم أصبحوا كذلك!
و من هنا يتضح لنا مفهوماً جديداً و هو "مفهوم التعاون" ، فتجد أحد المتعاونين يفض المشكلة بين الطرفين و لكن بالتأكيد يميل إلى جانب زميل الكفاح الذي سار معه جنباً إلى جنب في طابور واحد منذ الصباح الباكر حتى أشرقت الشمس و أينعت.
و يتعاون آخر بسب من هو خارج الطابور لأنه اعتدى على زميل الطابور العظيم.
و يتضح الفارق بين الذكر والأنثى في هذا الموقف ، فللذكر طرق للتعاون ، و للأنثى طرقاً أخرى ، فتسارع عضوات الطابور بالهمز واللمز ، يستارعون إلى النميمة فتجد إحدى الإناث تمسك بأذن الأخرى تملأها بكلام ضد هذا المشاغب الذي أتى لأهل الطابور ليعتدى عليهم!
فيا للتعـــاون الملحوظ!

وندخل على أحد المفاهيم الأخرى بل و أهمها ، و هو معرفة الدنيا من خلال الطابور!
يأتي آخر من في الطابور لا يعرف أحداً و لا يعلم شيئاً ، فيقف لمدة قصيرة ، فيعرف باقي أعضاء هذا الطابور المشرف ، و يعرف تفاصيل من حياتهم لا يعلمها ربما ذويهم ، و ربما تتربى بينهم الصداقة الوثيقة ، فزمالة الكفاح أقوى من أي صداقة ، و أشد من أي رابط ، فيعامل العجوز الولد على أنه ابنه ، و يعامل الرجل زوجة البواب تلك على أنها أخته التي عرفها للتو ، و هكذا..
و بعد هذه المشقة ينتهى دور كل واحد منهم في الطابور ، فيذهب إلى حيث يشاء ، إما للنوم و الراحة ، إما للعمل و العذاب ، و ها هو "مفهوم الدنيا" يصرح بنفسه لنا!
يأتى الإنسان غريباً ، و بعد المشقة يترك زملائه و أحبائه و أبنائه و إخوته ليذهب إلى مكان لا يعلمه كل هؤلاء ، إما إلى الراحة و إما إلى العذاب !!

فحمداً لله الذي رزقنا بطابور العيش ، فأصبحنا من المفكرين بسببه ، و تجلت لنا المفاهيم العالية و القواعد الراسخة في البشرية بسببه ، و يا لحسرة الشعوب المحرومة من طابور العيش!
وعندي فكرة مهمة أنهي بها مقالي المعاصر هذا ، فما المشكلة أن نستورد القمح من أمريكا و نصدر لهم طابور العيش ، رداً به على خدمات أمريكا الجليلة لشعوبنا العظيمة!!

الاثنين، 18 فبراير 2008

أم المنطقة

أم المنطقة

في بلادنا معلوم ا أنه ربما تنتشر قضية ما ، ومع الزمن تصبح خرافة يصدقها الجميع ، وربما يُطرَد من شكك فيها أو طعن في صحتها يوماً.
ومن الخرافات التي انتشرت عندنا هي "أم المنطقة" ، وأم المنطقة هي شجرة تقع في أول الشارع الرئيسي الذي يقسم القرية نصفين ، وتظهر فيها جلياً علامات الزمن السحيق ، وكما يقال فقد أكل عليها الزمن وشرب!

فما جرت عليه العادة في قريتنا البسيطة هو أن يتجمع الأفراد والعائلات تحت ظلال هذه الشجرة الوفيرة ، يتنسمون عبيرها الذي لا ينضب ، ويستنشقون زهورها التي لا تجف ، فيثملون بجمالها الذي يقرع الأنفس ويسكرها. فيجلس الجميع ، من العصر حتى العشاء إعتقاداً أن هذه الأوقات هي أوقاتاً مميزة ، لابد ألا يغفل عنها كل من سكن القرية النائية.

ولم تكن هذه العادة إلا أن الناس إعتقدوا أنه من تجمع مع أي من كان تحتها -سواء كان صديق أو عشيقة أو عائلة- لا يمكن أن يتفرقوا (أو يتفرقا) أبداً ماداموا يواظبون على هذه العادة التي ومع كونها عادة فهي تروح عن النفس ، وتملأ الروح رغبة في الحياة بسبب جمال الوقت المنقضي تحت الشجرة الأم.(1)

ولكن يسأل سائل ، من أين أتى هذا الإعتقاد العجيب والذي أورث الناس هذه العادة الغريبة؟
أجيب عن ذلك بأن أصل هذه الخرافة (أو ربما الإعتقاد!) ، أنه ذات يوم سكن القرية رجلاً فقيراً وكانت له زوجة أصغر منه ببعض السنين ، جاءا بأثواب مهلهلة ، فكان الزوج يرتدي بنطال مرقع والسيدة وضعوها في ملس شكله يوحي بأنه لم يتعرض أبداً لعملية غسيل جيدة. (2)
فسكن الزوجين في القرية ، وأنجبوا ولداً وحيداً لهم ، وإكتفوا به بسبب فقرهم المدقع وماليتهم البسيطة ، وبسبب هذا الفقر لم يجد الرجل وسيلة لينزه عائلته الصغيرة إلا بالذهاب إلى الشجرة فيجلسون تحتها من العصر للعشاء فما أجمل من نسائم العصاري و هواء المغربية، فما أحلى هذه الفسحة "البلوشي".

وظل الحال على ما هو عليه حتى طعنا الرجل والمرأة في السن ، طعناً لم يسبقهم إليه أحد من قبل ، حتى بلغ إبنهم المشيب وهما على قيد الحياة وفي أوج الصحة ، ولكن شاء الله أن تموت الزوجة ومات الرجل بعدها بعدة أيام.

ولا عجب في ذلك ، فقد أصيبت المرأة بمرض السل المعدي في كلتا رئتيها، وكان الرجل يمرضها وينام معها على نفس السرير فماتت المرأة بعد أن انتقلت العدوى للرجل فمات بعدها بعدة أيام وكذلك كان قضاء الله.
وعندما كان الرجل في فراش الموت ، ينتظر حضور ملك الموت ، ويتأهب للحظة لقاء ربه ، تجمع حوله الجيران من المنطقة وكلهم يتمتمون وهم ينظرون للرجل بــ "إنا لله وإنا إليه راجعون". والرجل في حالة يرثى لها ، فماهي إلا لحظات ويفارق تلك الحياة بعد عمره الذي طال.

وما نحن في هذا المشهد ، إذ برجل من الجيران يخاطب الرجل المقبل على الموت (وكانوا ينادونه بالبركة بسبب سنه الكبير -جداً-) فقال له: "قل لي يا بركة ، ما السر في طعنكم أنت وزوجتك في السن ، وإقبالك على الموت بعدها بعدة أيام فقط؟!"
فسكت البركة وكأن لسان حاله يقول "ياخي هو أنا ناقصك!" ، ولكنه ما لبث أن تكلم بعد هذا السكوت القصير فقال: "إنها البركة ، إنها الشجرة ، أم المنطقة!" (3)
سكت الجميع ، وحملقوا في جنبات الحجرة ، وكأنهم عرفوا ترياق الحياة ، فطفقوا يحملقون وكأنهم ينشدون ضالتهم (الشجرة) ، وقد أحسوا جميعهم بالحاجة إليها! وما هي إلا دقائق وخرجت روح الرجل من جسده.

وليست هي نهاية القصة وإنما هي البداية ، فقد كانت هذه الكلمات هي بداية الخرافة القديمة والتي استمرت وتزيد مع الزمن (4)، ولكن هل هذا حقيقي فعلاً ؟ أيمكن أن تكون هذه الشجرة سبباً لهذه الأعراض الصحية من طول العمر والصحة؟
ولكن قيل في الأمثال : "إذا عُرف السبب ، بطل العجب"!!

فقد كان سبب ذهاب الرجل بعائلته لهذه الشجرة هي الفسحة والترويح لا أكثر ، بسبب ضيق حظيرتهم وضعف دخلهم.
وأما طعنهم في السن بهذا الشكل ، فكان أيضاً بسبب فقرهم ، فلم يأكلا في حياتهما -الرجل وزوجته- إلا البيض واللبن والفول وغيرها من أطعمة الفقراء. فلم يعتادوا على ألوان "التيك أواي" ولم يتعرفوا على المزاجيات من شاي وقهوة ، ولم يأكلا أطعمتنا المسرطنة (5) ، فكان طعامهما فتات في فتات ولكنه مع ذلك صحي ، وحتى أنهما لم يتعودا الإستزادة من هذه الأطعمة الصحية فلم يصيبا أبداً بتخمة أو سِمنة أو حتى حالة إسهال! ، فغابت مسببات المرض فكانت صحتهما على هذه الحال ، وكانت مشيئة الله في بقائهما كذلك.

أما عن قول الرجل ببركة الشجرة ، إنما كان إستغلالاً للبسطاء من أهل القرية وساعد على ذلك البيئة الريفية التي عمها الجهل وكثر في أرجائها المكاذيب . وسيزول العجب ويتبدد السؤال عن سر هذا الكلام إذا عُلِمَ أن إبن هذا الرجل قد كان له مقهى عند الشجرة يقدم منها الطلبات والمشاريب لكل من أراد الجلوس عند الشجرة ، فاعتقد الرجل بذلك أنه يؤمن مستقبل ابنه وأحفاده!!(6)



-----------------
(1) فجميع الخرافات والأكاذيب لم تكن إلا بإستراحة النفس البشرية لها ، وما أضعف النفس البشرية ، فتضل ونسير وراء ضلالها.
(2) وهو حال كل من يصنع أي خرافة في التاريخ الإنساني ، فليس هؤلاء إلا من طلبوا الغنى وسعوا للشهرة بعد أن كانوا مرقعين الأثواب مهلهلين الملابس.
(3)، (4) وهذا بدء أي خرافة أو إبتداع البدع والأفكار الغريبة ، فلم تبدأ أي فكرة كهذه إلا بسبب قول رجل صدقه البعض وأورث الناس هذه المعتقدات في أبنائهم حتى تعم البدعة وتنتشر، وربما ينشأ على خرافة مذهباً أو طريقة.
(5) فلم يصل إليهم خبراء الزراعة اليهود بأسمتدهم المسرطنة بعد!
(6) وهكذا كانت جميع الإعتقادات التي لم ينزل الله بها من سلطان ، وعلى كل من يؤمن ويجد من يخالفه أن يرى الأدلة ويستمع لصوت العقل بدلاً من العصبية الفكرية ، فما نحن فيه الآن لم يكن إلا بسبب إنتشار الجهل وعموم المعتقدات التي لم ينزل الله بها من سلطان ، ولهذا كثرت الملل والنحل ، والمذاهب و العقائد ، والفرق والطرق ، فعليك إن وجدت من يخالفك أن تمعن النظر في أدلته ، وتعرف أدلتك فربما يكون هو على الحق وأنت على باطل ، هذا إن أردت المعرفة لا الجهل ، وأردت الحقيقة لا العصبية الممقوتة ، {فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} [النساء : 59].